فصل: ذكر كلامه في كتابه الكبير في إثبات الصفات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ***


قول أبي جعفر الهمداني الصوفي

ذكر محمد بن طاهر المقدسي محدث الصوفية في كتابه عنه أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني وهو يقول‏:‏ كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان عليه وكلاما من هذا المعنى‏.‏ فقال‏:‏ يا شيخ دعنا من ذكر العرش أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا‏؟‏ قال‏:‏ فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه وقال‏:‏ حيرني الهمداني حيرني الهمداني‏.‏

قول الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني

شيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قال في رسالة‏:‏ أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها‏:‏ وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعبادة يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول‏:‏ هل من داع فأستجيب له‏؟‏ هل من تائب فأتوب عليه‏؟‏ حتى يطلع الفجر‏.‏ ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال‏.‏

قول الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين الشيخ عبد القادر الجيلاني

قدس الله روحه قال في كتابه تحفة المتقين وسبيل العارفين في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عز وجل وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ إلى أن قال والله تعالى بذاته على العرش وعلمه محيط بكل مكان والوقف عند أهل الحق على قوله‏:‏ ‏(‏إلا الله‏)‏ وقد روى ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على فوق العرش ويعلم ما في السموات والأرض إلى أن قال‏:‏ ووقف جماعة من منكري استواء الرب عز وجل على قوله‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وابتدءوا بقوله‏:‏ ‏{‏استوى له ما في السموات وما في الأرض يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه وهذا خطأ منهم لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته‏.‏ وقال في كتابه الغنية‏:‏ أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو‏:‏ أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد إلى أن قال وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏، ‏{‏يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون‏}‏‏.‏

فلا يجوز وصفه بأنه في كل مكان بل يقال‏:‏ إنه في السماء على العرش استوى كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وساق آيات وأحاديث ثم قال‏:‏ وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش ثم قال وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف هذا نص كلامه في الغنية‏.‏

قول أبي عبد الله بن خفيف الشيرازي

إمام الصوفية في وقته قال في كتابه الذي سماه اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات قال في آخر خطبته‏:‏ فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه وقدره قولا واحدا وشرطا ظاهرا وهم الذين نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك حين قال‏:‏ «عليكم بسنتي» فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم، إذا لم يختلفوا بحمد الله في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر الاختلاف‏.‏ ثم ذكر حديث‏:‏ «يلقى في النار وتقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ حتى يضع الجبار فيها رجله»، وحديث‏:‏ «الكرسي موضع القدمين» و«العرش لا يقدر قدره إلا الله» ثم ذكر حديث الصور إلى أن قال‏:‏ ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال‏:‏ هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار إلى أن قال‏:‏ ومما نعتقد أن‏:‏ «الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيبسط يديه ويقول‏:‏ هل من سائل‏؟‏» الحديث‏.‏ وليلة النصف ‏(‏من شعبان‏)‏ وعشية عرفة وذكر الحديث في ذلك ‏(‏ونعتقد أن الله يتولى حساب الخلق بنفسه‏)‏ ونعتقد أن الله خص محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالرؤية واتخذه خليلا‏.‏

قول شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله الأنصاري

صاحب كتاب منازل السائرين والفاروق وذم الكلام وغيره صرح في كتابه بلفظ الذات في العلو وأنه استوى بذاته على عرشه قال‏:‏ ولم تزل أئمة السلف تصرح بذلك ومن أراد معرفة صلابته في السنة والإثبات فليطالع كتابيه الفاروق وذم الكلام‏.‏

قول شيخ الصوفية والمحدثين أبي نعيم صاحب كتاب حلية الأولياء

قال في عقيدته‏:‏ وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعبادة يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء فيقول‏:‏ هل من داع فأستجيب له‏؟‏ هل من مستغفر فأغفر له‏؟‏ هل من تائب فأتوب عليه‏؟‏ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب تعالى إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة العارفين على هذا‏.‏ ثم قال‏:‏ وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فالاستواء معقول والكيف مجهول وأنه سبحانه بائن من خلقه وخلقه بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق والواحد الغني عن الخلق‏.‏ وقال أيضا‏:‏ طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة وساق ذكر اعتقادهم ثم قال‏:‏وأن مما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه وساق بقيته‏.‏

قول الإمام يحيى بن عمار السجزي

شيخ أبي إسماعيل الأنصاري إمام الصوفية في وقته قال في رسالته في السنة بعد كلام‏:‏ بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو معكم‏}‏ ورسالته موجودة مشهورة‏.‏

قول عتبة الغلام

قال محمد بن فهد المديني كان عتبة يصلي هذا الليل الطويل فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال‏:‏ سيدي إن تعذبني فإني أحبك وإن تعف عني فإني أحبك‏.‏

أقوال الشارحين لأسماء الله الحسنى

قول القرطبي في شرحه

قال‏:‏ وقد كان الصدر الأول لا ينفون الجهة بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص العرش بذلك دون غيره؛ لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك‏:‏ الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن الكيف بدعة‏.‏ وكذلك قالت أم سلمة، ثم ذكر كلام أبي بكر الحضرمي في رسالته التي سماها بالإيماء إلى مسألة الاستواء، وحكايته عن القاضي عبد الوهاب أنه استواء الذات على العرش وذكر أن ذلك قول القاضي أبي بكر بن الطيب الأشعري كبير الطائفة وأن القاضي عبد الوهاب نقله عنه نصا وأنه قول الأشعري وابن فورك في بعض كتبه، وقول الخطابي وغيره من الفقهاء والمحدثين، قال القرطبي‏:‏ وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا وأظهر ‏(‏هذه‏)‏ الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، ‏(‏وقال ‏(‏جميع‏)‏ الفضلاء الأخيار‏)‏‏:‏ إن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات‏.‏

أقوال أئمة الكلام من أهل الإثبات المخالفين للجهمية والمعتزلة والمعطلة

قول الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب

إمام الطائفة الكلابية كان من أعظم أهل الإثبات للصفات والفوقية وعلو الله على عرشه منكرا لقول الجهمية، وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب تعالى، وأن القرآن معنى قائد بالذات وهو أربع معان‏:‏ ونصر طريقته أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري‏.‏ وخالفه في بعض الأشياء ولكنه على يقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه، قال ابن كلاب في بعض كتبه‏:‏ وأخرج من الأثر والنظر ‏(‏قول‏)‏ من قال أن الله سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه حكاه عنه شيخ الإسلام في عامة كتبه الكلامية وحكى عنه أبو الحسن الأشعري أنه كان يقول‏:‏ إن الله مستو على عرشه- كما قال- وأنه فوق كل شيء هذا لفظ حكاية الأشعري عنه، وحكى عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من مقالاته في كتاب المجرد، وأخرج من النظر والخبر قول من قال لا ‏(‏هو‏)‏ في العالم ولا خارج منه فنفاه نفيا مستويا؛ لأنه لو قيل له صفه بالعدم ما قدر أن يقول أكثر من هذا‏.‏ ورد أخبار الله نصا وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون، قال‏:‏ وإن قالوا هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه وإنفراد العرش به قيل‏:‏ إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه غير عالم بهما فلا، وإن كنتم تريدون خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول‏:‏ استوى الله على العرش ونحتشم أن نقول‏:‏ استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت‏.‏ قال ابن كلاب‏:‏ يقال لهم ‏(‏أيضا‏)‏ هو فوق ما خلق‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ نعم قيل لهم‏:‏ ما تعنون بقولكم‏:‏ إنه فوق ما خلق‏؟‏ فإن قالوا بالقدرة والعزة قيل ‏(‏لهم‏)‏‏:‏ ليس هذا سؤالنا وإن قالوا المسألة خطأ، قيل لهم‏:‏ فليس هو فوق، فإن قالوا‏:‏ نعم، ليس هو فوق قيل لهم‏:‏ وليس هو تحت، فإن قالوا‏:‏ ‏(‏لا فوق‏)‏ ولا تحت، أعدموه؛ لأن ما كان لا تحت ولا فوق عدم وإن قالوا‏:‏ هو تحت وهو فوق، قيل لهم‏:‏ فيلزم أن يكون تحت وفوق، ثم بسط الكلام في استحالة نفي المباينة والمماسة عنه بالعقل وأن ذلك يلحقه بالعدم المحض‏.‏ ثم قال‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو صفوة الله من خلقه- وخيرته من بريته وأعلمهم ‏(‏جميعا به يجيز السؤال‏)‏ بالأين واستصوب قول القائل أنه في السماء وشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين بزعمهم ويحيلون القول به قال‏:‏ لو كان خطأ لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فتوهمي أنه محدود وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي‏:‏ إنه في كل مكان؛ لأنه هو الصواب دون ما قلت، كلا فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بما فيه وأنه من الإيمان بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته‏.‏ وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق بذلك وشاهد له‏؟‏ ‏(‏قال‏)‏ ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا خاصة إلا ما ذكرناه من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف ‏(‏وقد‏)‏ غرس في نيته الفطرة ومعارفة الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد‏؟‏ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك‏؟‏ إلا قال‏:‏ في السماء ‏(‏إن‏)‏ أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح ولا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا إذا عن له دعاء إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول‏:‏ في كل مكان كما يقولون وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وخمسون رجلا معهم نعوذ بالله من مضلات الفتن‏.‏ هذا آخر كلامه‏.‏

قول شيخ الإسلام ابن تيمية

قدس الله روحه ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة ويذكرون رده على المعتزلة وأبدى تناقضهم، ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لا سيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل بن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري قال‏:‏ وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد، لما ذكر عقيدة أحمد قال‏:‏ وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال‏:‏ والأشعري وأئمة أصحابه كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن المجاهد، والقاضي أبي بكر، متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين، وإبطال تأويلها وليس للأشعري في ذلك قولان أصلا، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين ولكن لأتباعه قولان في ذلك ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولها في الإرشاد ورجع عن التأويل في الرسالة النظامية وحرمه ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجب ولا جائز‏.‏

قول أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري

إمام الطائفة الأشعرية نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات وما نقله عنه أعظم الناس انتصارا له الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكتاب الذي سماه تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري‏.‏

ذكر قوله في كتاب الإبانة في أصول الديانة

قال أبو القاسم بن عساكر‏:‏ إذا كان أبو الحسن مستصوب المذهب عند أهل العلم بالمعرفة والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة؛ لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة فاسمع ما ذكره في ‏(‏أول‏)‏ كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال‏:‏ الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وهو المبديء المعيد جل عن اتخاذ الصاحبة والأبناء وتقدس عن ملامسة النساء فليس له عزة تنال ولا حد تضرب فيه الأمثال لم يزل بصفاته أولا قديرا ولا يزال عالما خبيرا سبق الأشياء علمه ونفذت فيها إرادته فلم تعزب عنه خفيات الأمور ولم يغيره سوالف صروف الدهور، ولم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب ولا مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته ودبرها بمشيئته وقهرها بجبروته وذللها بعزته فذل لعظمته المتكبرون واستكان لعظم ربوبيته المتعظمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه الممترون، وذلك له الرقاب وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب وقامت بكلمته السموات السبع واستقرت الأرض المهاد وثبتت الجبال الرواسي وجرت الرياح اللواقح وسار في جو السماء السحاب وقامت على حدودها البحار وهو إله قاهر يخضع له المعتزون ويخشع له المترفعون وتطيع طوعا وكرها له العالمون نحمده كما حمد نفسه وكما هو أهله ومستحقه ونستعينه استعانة من فوض إليه أمره وأقر أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه ونستغفره استغفار مقر بذنبه معترف بخطيئته ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بوحدانيته وإخلاصا لربوبيته وأنه العالم بما تبطنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر وما تخفيه النفوس وما تخزن البحار وما تواري الأسراب وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، وساق خطبة طويلة بين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الصحابة إلى أن قال فيها‏:‏ ودافعوا أن يكون لله وجه مع قوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله‏:‏ ‏{‏لما خلقت بيدي‏}‏ وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ ونفوا ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله‏:‏ إن الله ينزل ‏"‏كل ليلة‏"‏ إلى سماء الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله تعالى بابا بابا وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد‏.‏ ‏(‏فإن قال لنا قائل‏)‏ قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون‏؟‏ وديانتكم التي بها تدينون‏؟‏ قيل له‏:‏ قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالفه مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين‏.‏ وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد‏.‏ أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله‏.‏‏.‏ وأن الجنة حق والنار حق ‏"‏وأن‏"‏ الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى استوى على عرشه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وأن له وجها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ وأن له يدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولما خلقت بيدي‏}‏ وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏}‏ ونثبت لله قوة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة‏}‏ ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول‏:‏ إن ‏(‏القرآن‏)‏ كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له‏:‏ كن فيكون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما قولنالشيءإذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا يستغني عن الله، ولا نقدر عن الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة ‏(‏له‏)‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل من خالق غير الله‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يخلقون شيئا وهم يخلقون‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون‏.‏ أم خلقوا السموات والأرض‏}‏ وهذا في كتاب الله كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلح لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون‏}‏ وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وإنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، وإنا نلجيء أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول‏:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين بأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقول‏:‏ إن الكافرين، إذا رآهم المؤمنون عنه محجوبون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا ‏{‏وخر موسى صعقا‏}‏ وأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا ونرى أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون، ونقول‏:‏ إن من عمل كبيرة من الكبائر ‏"‏كالزنا والسرقة‏"‏ وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول‏:‏ إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا، وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا من أهل النار معذبين، ونقول‏:‏ إن الله يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونؤمن بعذاب القبر ونقول‏:‏ إن الحوض والميزان حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم بالروايات الصحيحة وذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندين بحب السلف الذي اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله ‏(‏به‏)‏ عليهم ونتولاهم ‏(‏أجمعين‏)‏ ونقول‏:‏ إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه قتله قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين لله بأن الأئمة الأربعة ‏(‏خلفاء‏)‏ راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب تعالى يقول‏:‏ هل من سائل‏؟‏ هل من مستغفر‏؟‏ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتعطيل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول‏:‏ إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏}‏ وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏ ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين ‏"‏سنة‏"‏ في الحضر والسفر خلافا لمن أنكر ذلك و‏(‏نرى‏)‏ الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم ‏"‏إذ ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف‏"‏ وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ‏"‏ونقر‏"‏ أن لذلك تأثيرا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين المؤمنين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة ‏(‏وسحرا‏)‏ وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم، ونوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات ‏(‏أو قتل‏)‏ فبأجله مات أو قتل‏.‏ وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها ‏(‏الله‏)‏ عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس‏}‏ ونقول‏:‏ إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها عليهم، وقولنا في أطفال المشركين أن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول لهم‏:‏ اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه مما لم نذكره بابا بابا‏.‏

قلت‏:‏ ثم ذكر الأبواب إلى أن قال‏:‏ باب ‏"‏ذكر‏"‏ الاستواء ‏"‏على العرش‏"‏ وإن قال قائل‏:‏ ما تقولون في الاستواء‏؟‏ قيل له‏:‏ ‏"‏نقول‏"‏‏:‏ إن الله مستو على عرشه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ وقال تعالى حكاية عن فرعون‏:‏ ‏{‏يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا‏}‏ كذب ‏"‏فرعون‏"‏ موسى في قوله‏:‏ إن الله فوق السموات وقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض‏}‏ فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق ‏"‏السموات قال‏:‏ أمنتم من في السماء؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق‏"‏ السموات وكان كل ما علا فهو سماء ‏"‏فالعرش أعلى السموات‏"‏ وليس إذا قال‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء‏}‏ يعني‏:‏ جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أنه ذكر السموات فقال‏:‏ ‏{‏وجعل القمر فيهن نورا‏}‏ ولم يرد أنه يملأهن جميعا‏.‏‏.‏‏.‏ ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله تعالى على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش‏.‏

ثم قال‏:‏ ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله تعالى يقولون‏:‏ يا ساكن العرش ومن خلفهم يقولون لا والذي احتجب بسبع، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى استوى‏:‏ استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق‏:‏ وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا‏:‏ كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال‏:‏ إن الله مستوي على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال‏:‏ إن الله مستو على الحشوش والأخلية فبطل أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء، ثم بسط الأدلة على هذه المسألة من الكتاب والسنة والعقل ولولا خشية الإطالة لسقناها بألفاظها‏.‏ وقال الأشعري في كتاب الأمالي‏"‏ باب القول في الأماكن زعمت النجارية أن الله بكل مكان على معنى الصنع والتدبير واختلف أصحاب الصفات في ذلك، فقال أبو محمد عبد الله بن كلاب‏:‏ إن الله لم يزل لا في مكان وهو اليوم لا في مكان، وقال آخرون منهم‏:‏ إنه مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ فامتدح نفسه بأنه على العرش استوى بمعنى أنه علا عليه وعلمنا أنه لم يزل عاليا رفيعا قبل خلق الأشياء وقبل خلق العرش الذي هو عال عليه سبحانه وبحمده‏.‏

ذكر كلامه في كتابه الكبير في إثبات الصفات

وقد ذكر ترجمة هذا الكتاب في كتابه الذي سماه العمدة في الرؤية فقال‏:‏ وألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا على أصناف المعتزلة والجهمية المخالفين لنا في نفيهم علم الله تعالى وقدرته وسائر صفاته، وعلى أبي الهذيل ومعمر، والنظام وفي فنون كثيرة من فنون الصفات في إثبات الوجه واليدين وفي إثبات استواء الرب سبحانه على العرش ثم ساق مضمونه، ذكر كلامه في كتاب جمل المقالات قال‏:‏ الحمد لله ذي العزة والإفضال والجود والنوال أحمده على ما خص وعم من نعمه وأستعينه على أداء فرائضه وأسأله الصلاة على خاتم رسله، أما بعد فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتميز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ‏"‏ويصنفون‏"‏ في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه وغالط فيما يذكره من قول مخالفه، ومن بين معتمد الكذب في الحكاية إذا أراد التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك التقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به وليس هذا سبيل الربانيين ولا سبيل الفطنة المميزين فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما ألتمس شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار وأنا مبتديء شرح ذلك بعون الله وقوته‏.‏ وساق حكاية مذاهب الناس إلى أن قال‏:‏ هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة‏:‏ جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يردون من ذلك شيئا ‏(‏وأن‏)‏ الله إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وأن الله له يدين بلا كيف كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لما خلقت بيدي‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ وأن له وجها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏(‏ويقولون‏)‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال‏:‏ اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال‏:‏ غير مخلوق ويقولون‏:‏ إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون‏.‏ وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يرى في الدنيا ثم ساق بقية قولهم‏.‏

وقال في هذا الكتاب‏:‏ وقال أهل السنة أصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول‏:‏ استوى بلا كيف، وأنه نور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله نور السموات والأرض‏}‏ وأن له وجها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ وأن له يدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لما خلقت بيدي‏}‏ وأن له عينين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏}‏ وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت المعتزلة‏:‏ إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى هذا نص كلامه‏.‏

وقال في هذا الكتاب أيضا‏:‏ وقالت المعتزلة في قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ يعني‏:‏ استولى، قال‏:‏ وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ أي بعلمنا، قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين‏:‏ قال بعضهم‏:‏ -وهو أبو الهذيل- وجه الله هو الله‏.‏ وقال غيره‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏ أي‏:‏ ويبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجها، يقال‏:‏ إنه هو الله ولا يقال ذلك فيه، والأشعري إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية وصرح بخلافه وأنه خلاف أهل السنة، وكذلك قال محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره تابعا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى‏.‏

قول القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري

قال في كتاب التمهيد في أصول الدين وهو من أشهر كتبه‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فهل تقولون‏:‏ إن الله في كل مكان‏؟‏ قيل‏:‏ معاذ الله بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض‏}‏ ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفي فمه وفي الحشوش وفي المواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى الله عن ذلك، ولو كان في كل مكان لوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه وينقص بنقصانها إذا بطل ‏(‏منها‏)‏ ما كان، ‏"‏ولصح‏"‏ أن يرغب إليه نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وعن شمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله‏.‏ ثم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ المراد‏:‏ أنه إله عند أهل السماء وإله عند أهل الأرض كما تقول العرب‏:‏ فلان نبيل مطاع في المصرين أي عند أهلهما وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏ يعني‏:‏ بالحفظ والنصر والتأييد ولم يرد أن ذاته معهم تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني معكما أسمع وأرى‏}‏ محمول على هذا التأويل وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏}‏ يعني‏:‏ أنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن فلذلك لا يجوز أن يقال قياسا على هذا‏:‏ إن الله بالبردان مدينة السلام ودمشق وأنه مع الثور والحمار وأنه مع الفساق والمجان ومع المصعدين إلى حلوان قياسا على قوله‏:‏ ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا‏}‏ فوجب أن يكون التأويل على ما وصفناه ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشاعر‏:‏ قد استوى بشر على العراق؛ لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا وقوله‏:‏ ‏{‏ثم استوى‏}‏ يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه، ثم قال‏:‏ باب فإن قال قائل‏:‏ ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله لأعرف ذلك‏؟‏ قيل له‏:‏ صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا؛ وصفات فعله هي الخلق والرزق والعدل والإحسان والتفضل والإنعام والثواب والعقاب والحشر والنشر وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها‏.‏ ثم ساق الكلام في الصفات‏.‏

وقال ـ في جوابات للمسائل التي سأله عنها أهل بغداد في رسالته التي بين فيها اتفاق الحنابلة والأشاعرة ـ قد عرفت انزعاجكم، واستيجاشكم، واهتمامكم بما أفشاه قوم من عامة المسجلين للسنة، وأتباع السلف الصالح من الأئمة المطهرين المتخصصين بمذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل من ادعائهم مخالفة شيخنا أبي الحسن الأشعري لأهل السنة وأصحاب الحديث في القرآن، وما يضيفونه إليه من أنه كان يقف في إكفار من يقول من المعتزلة والخوارج والبخارية والجهمية والمرجئة بخلق القرآن، ولا نقطع بأنهم كفار‏.‏ إلى أن قال‏:‏ واعلموا أن مذهبنا ومذهب أبي الحسن الذي سطره في سائر كتبه الكبار والمختصرات هو مذهب الجماعة وسلف الأمة وما مضى عليه الصالحون من الأئمة من أن كلام الله صفة من صفات ذاته غير محدث، ولا مخلوق، وأنه لم يزل متكلما، وذكر الحجة في ذلك‏:‏ إلى أن قال‏:‏ وكذلك قولنا في جميع المروي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صفات الله ـ تعالى ـ إذا ثبتت بذلك الرواية من إثبات الوجه له، واليدين، والعينين اللتين نطق بهما الكتاب‏.‏ قال الله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏‏.‏ وقال لإبليس‏:‏ ‏{‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏، وقال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان كيف يشاء‏}‏، وقال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏، وقال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏، فأثبت لنفسه في نص كتابه‏:‏ الوجه والعينين، واليدين‏.‏ وروي في الحديث من رواية ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر الدجال وأنه أعور‏.‏ وقال‏:‏ «إن ربكم ليس بأعور»، فأثبت له العينين، وهذا حديث غير مختلف في صحته عند العلماء بالحديث‏.‏ وهو في صحيح البخاري، وقال‏:‏ فيما روي عنه من الأخبار المشهورة‏:‏ «وكلتا يديه يمين»؛ يعني أنه سبحانه لا يتعذر عليه بإحداهما ما يأتي بالأخرى كالذي يتعذر على الأيسر ما يأتي بيمينه، ونقول أنه يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام والملائكة كما نطق بذلك القرآن، وأنه عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول‏:‏ هل من سائل فيعطى‏؟‏، أو مستغفر فيغفر له‏؟‏، الحديث‏.‏

وأنه ـ جل ثناؤه ـ مستو على عرشه كما قال ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏، وقد بينا أن ديننا ودين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت من غير تكييف ولا تحديد، ولا تجسيم، ولا تصوير، بل كما جاءت بها الأحاديث، وكما روي عن ابن شهاب الزهري وغيره من أئمة الحديث في وجوب إمرارها على ما جاء به الحديث من غير تكييف‏.‏ وروى الثقات عن مالك أن سائلا سأله عن قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏، فقال‏:‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ فمن تجاوز هذا المروي من الأخبار عن التابعين ومن بعدهم من السلف الصالح، وأئمة الحديث والفقه، وكيف شيئا من هذه الصفات المروية ومثلها بشيء من جوارحنا وآلاتنا فقد تعدى وأثم، وضل، وأبدع في الدين ما ليس منه‏.‏ وقد روي عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وهو من أئمة الحديث أن الأمير عبد الله بن طاهر سأله فقال‏:‏ يا أبا يعقوب، ما هذا الحديث الذي تروونه‏:‏ «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا»، كيف ينزل‏؟‏ فقال إسحاق‏:‏ أيها الأمير، لا يقال لأمر الرب كيف‏.‏

ذكر قوله في كتاب الإبانة له

ذكر صفة الوجه واليدين والعينين وأثبتها كما ذكر في التمهيد، ثم قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فهل تقولون إنه في كل مكان‏؟‏ قيل له‏:‏ معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه ثم ذكر الأدلة على ذلك نقلا وعقلا قريبا مما ذكر في التمهيد، وقال في هذا الكتاب أيضا‏:‏ وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها هي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا‏.‏

ذكر قوله في رسالة الحيرة

قال- في كلام ذكره في الصفات- وأن له وجها ويدين وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ثم قال‏:‏ وأنه مستو على عرشه فاستولى على خلقه ففرق بين الاستواء الخاص وبين الاستيلاء العام‏.‏

قول الحسين بن أحمد الأشعري

المتكلم من متكلمي أهل الحديث صاحب جامع الكبير والصغير في أصول الدين قال في جامعه الصغير‏:‏ فإن قيل‏:‏ ما الدليل على أن الله تعالى على العرش بذاته‏؟‏ قلنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش الرحمن‏}‏ فإن قالوا‏:‏ فإن العرب يقولون‏:‏ استوى فلان على بلد كذا وكذا إذا استولى عليه وقهر‏؟‏ قلنا لأصحابنا عن هذا أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لو كان استوى بمعنى استولى لم يكن لتخصيصه العرش بالاستواء معنى، لأنه مستول على كل شيء غيره فكان يجوز أن يقال‏:‏ الرحمن على الجبل استوى وهذا باطل‏.‏

الثاني‏:‏ أن العرب لا تدخل ثم إلا لأمر مستقبل سيكون والله تعالى لم يزل قاهرا قادرا مستوليا على الأشياء فلم يكن بزعمهم لقوله‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ معنى‏.‏

الثالث‏:‏ أن الاستواء بمعنى الاستيلاء لا يكون عند العرب إلا بعد أن يكون ثم مغالب يغالبه فإذا غلبه وقهره قيل‏:‏ قد استولى عليه، فلما لم يكن مع الله مغالب لم يكن معنى استوائه على عرشه استيلائه عليه وغلبة، وصح أن استواءه ‏(‏عليه‏)‏ هو علوه وارتفاعه عليه بلا حد ولا كيف ولا تشبيه‏.‏ ثم ذكر قول الخليل بن أحمد وابن الأعرابي أن الاستواء في اللغة هو العلو والرفعة؛ لأنهم يقولون‏:‏ استوت الشمس إذا تعالت، واستوى الرجل على ظهر دابته إذا علاها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استوت على الجودي‏}‏ أي‏:‏ ارتفعت عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده واستوى‏}‏ أي‏:‏ ارتفع عن حال النقصان إلى حال الكمال، وقوله‏:‏ استوى أمر فلان أي ارتفع وعلا عن الحال التي كان عليها من الضعف وسوء الحال وساق الكلام‏.‏

ذكر قول الإمام فخر الدين الرازي

في آخر كتبه وهو كتاب أقسام اللذات الذي صنفه في آخر عمره وهو كتاب مفيد ذكر فيه أقسام اللذات وبين أنها ثلاثة‏:‏ الحسية‏:‏ كالأكل والشرب والنكاح واللباس‏.‏ واللذة الخيالية الوهمية‏:‏ كلذة الرياسة والأمر والنهي والترفع ونحوها‏.‏ واللذة العقلية‏:‏ كلذة العلوم والمعارف‏.‏ وتكلم عن كل واحد من هذه الأقسام إلى أن قال‏:‏ وأما اللذة العقلية‏:‏ فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها فلهذا السبب نقول‏:‏ يا ليتنا بقينا على العدم الأول وليتنا ما شهدنا هذا العالم وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن، وفي هذا المعنى قلت‏:‏

نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم قد رأينا من رجال ودولة *** فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها *** رجال فزالوا والجبال جبال

واعلم أن بعد التوغل في هذه المضائق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم، والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل فاقرأ في التنزيه قوله تعالى‏:‏

‏{‏والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏، واقرأ في الإثبات قوله‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كل من عند الله‏}‏، وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله‏}‏ الآية وعلى هذا القانون فقس وختم الكتاب‏.‏

قول متكلم السنة إمام الصوفية في وقته أبي العباس أحمد بن محمد المظفري

المختار الرازي صاحب كتاب فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات، وهو على صغر حجمه كتاب جليل غزير العلم قال فيه بعد حكاية مذاهب الناس‏:‏ وقالت الحنابلة وأصحاب الظواهر والسلف من أهل الحديث‏:‏ إن الله على العرش ثم قال‏:‏ أما حجة المثبتين فمن حيث الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول، ثم ذكر حجج القرآن والسنة ثم حكى كلام الصحابة إلى أن قال‏:‏ ثم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا‏؟‏ واختلافهم في الرؤية تلك الليلة اتفاق منهم على أن الله على العرش لأن المخالفين لا يفرقون بين الأرض والسماء بالنسبة إلى ذاته فهم فرقوا حيث اختلفوا في أحدهما دون الآخر‏.‏ قلت‏:‏ مراده ‏(‏أنهم‏)‏ إنما اختلفوا في رؤيته لربه ليلة أسرى به إلى عنده فجاوز السبع الطباق ولولا أنه على العرش لكان لا فرق في الرؤية نفيا ولا إثباتا في تلك الليلة وغيرها‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما المعقول فمن وجوه خمسة‏:‏ أحدها‏:‏ إطباق الناس كافة وإجماع الخلق عامة من الماضين والغابرين والمؤمنين والكافرين على رفع الأيدي إلى السماء عند السؤال والدعاء بخلاف السجود فإنه تواضع متعارف وبخلاف التوجه إلى الكعبة فإنه تعبد غير معقول، أما رفع الأيدي بالسؤال نحو المسئول فأمر معقول متعارف، قال‏:‏ ومن نظر في قصص الأنبياء وأخبار الأوائل القدماء وأنباء الأمم الماضية والقرون الحالية اتضحت له هذه المعاني واستحكمت له هذه المباني ثم قرر العلو وساق شبه النفاة ونقضها نقض من يقلع غروسها كل القلع رحمه الله تعالى‏.‏

‏[‏قول شعراء الإسلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ‏]‏

قول حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال محمد بن عثمان الحافظ‏:‏ صح عن حبيب بن أبي ثابت عن حسان أنه أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعرا‏:‏

شهدت بإذن الله أن محمدا *** رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما *** له عمل من ربه متقبل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم *** يقول بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ وأنا أشهد، وقال حسان أيضا في قصيدته الدالية في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعرا‏:‏

ألم تر أن الله أرسل عبده *** ببرهانه والله أعلى وأمجد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله ميمون يلوح ويشهد

قول عبد الله بن رواحة

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ صح عن عبد الله بن رواحة أن امرأته رأته مع جاريته فذهبت لتأخذ سكينا فقال‏:‏ ما فعلت، فقالت‏:‏ بلى قد رأيتك، قال‏:‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن قراءة القرآن، قالت‏:‏ فاقرأ فقال شعرا‏:‏

شهدت بأن وعد الله حق *** وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف *** وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة كرام *** ملائكة الإله مسومينا

فقالت‏:‏ صدق الله وكذب بصري، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه، قال محمد بن عثمان الحافظ‏:‏ رويت هذه القصة من وجوه ‏(‏صحاح‏)‏ عن ابن رواحة‏.‏

قول العباس بن مرداس السلمي

قال عوانة بن الحكم‏:‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فأقالوا ببابه أياما لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك مر بهم عدي بن أرطأة فدخل على عمر فقال‏:‏ الشعراء ببابك يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ ويحك مالي وللشعراء‏؟‏ قال‏:‏ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد امتدح ‏(‏فأعطى‏)‏ فامتدحه العباس بن مرداس الأسلمي فأعطاه حلة‏.‏ قال‏:‏ أو تروي من شعره شيئا‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأنشده عدي بن أرطأة قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏

رأيتك يا خير البرية كلها *** نشرت كتابا جاء بالحق معلنا

شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا *** عن الحق لما أصبح الحق مظلما

تعالى علوا فوق سبع إلهنا *** وكان مكان الله أعلى وأعظما

قول لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك العامري الشاعر

أحد شعراء الجاهلية والإسلام، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن شعره‏:‏

لله نافلة الأجل الأفضل *** وله العلى وأثيت كل مؤثل

لا يستطيع الناس محو كتابه *** أنى وليس قضاؤه بمبدل

سوى فأعلى دون غرة عرشه *** سبعا طباقا فوق فرع المعقل

والأرض تحتهم مهادا راسيا *** ثبتت جوانبها بصم الجندل

ذكر ما أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت

الذي شهد لشعره بالإيمان ولقلبه بالكفر

مجدوا الله فهو للمجد أهل *** ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق *** وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا لا يناله بصر العين *** ترى دونه الملائك صورا

معنى شرجعا‏:‏ أي طويلا، وصورا‏:‏ جمع أصور وهو المائل العنق، ومن شعره قوله في داليته المشهورة، ذكرها ابن عبد البر وغيره من شعره‏:‏

لك الحمد والنعماء والملك ربنا *** فلا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

عليه حجاب النور والنور حوله *** وأنهار نور حوله تتوقد

فلا بشر يسمو إليه بطرفه *** ودون حجاب النور خلق مؤيد

وفيها وصف في الملائكة‏:‏

وساجدهم لا يرفع الدهر *** رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد

ذكر القصيدة التي أنشدها إسماعيل بن فلان الترمذي للإمام أحمد في محبسه

قال إبراهيم بن إسحاق البعلي‏:‏ أخذت هذه القصيدة من أبي بكر المروذي وذكر أن إسماعيل بن فلان الترمذي قالها، وأنشدها أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وهو في سجن المحنة‏:‏

تبارك من لا يعلم الغيب غيره *** ومن لم يزل يثنى عليه ويذكر

علا في السموات العلى فوق عرشه *** إلى خلقه في البر والبحر ينظر

سميع بصير لا نشك مدبر *** ومن دونه عبد ذليل مدبر

يدا ربنا مبسوطتان كلاهما *** تسحان والأيدي من الخلق تقتر

وساق القصيدة وهي من أحسن القصائد لم ينكرها أحد من أهل الحديث بل أثنوا على ناظمها ومدحوه‏.‏

قول حسان السنة في وقته

المتفق على قبوله الذي سار شعرة مسيرة الشمس في الآفاق واتفق على قبوله الخاص والعام أي اتفاق، ولم يزل ينشد في الجوامع العظام ولا ينكر عليه أحد من أهل الإسلام يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور الصرصري الأنصاري الإمام في اللغة والفقة والسنة والزهد والتصوف قال في قصيدته العينية التي أولها شعرا‏:‏

تواضع لرب العرش علك ترفع *** فقد فاز عبد للمهيمن يخضع

وداو بذكر الله قلبك إنه *** لأعلى دواء للقلوب وأنفع

وخذ من تقى الرحمن أمنا وعدة *** ليوم به غير التقى مروع

إلى أن قال‏:‏

سميع بصير ما له في صفاته *** شبيه يرى من فوق سبع ويسمع

قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه *** ومن علمه لم يخل في الأرض موضع

وقال في لاميته التي أولها‏:‏

ألذ وأحلى من شمول وشمأل *** وأليق من ذكرى حبيب ومنزل

ويوم ينادى العالمين فيسمع *** القصي كدان في المقال المطول

أنا الملك الديان والنقل ثابت *** فهل هاهنا ينساغ تأويل جهل

وينظره أهل البصائر في غد *** بأبصارهم لا ريب فيه لمجتلي

كما ينظرون الشمس ما حال دونها *** سحاب ألا بعدا لأهل التعزل

توحد فوق العرش والخلق دونه *** وأحكم ما سواه إحكام مكمل

وقال في قصيدته تحفة المريدين التي أولها‏:‏

أسير وقلبي في رباك أسير *** فهل لي من جور الفراق مجير

وأستجلب السلوى وفي القلب حسرة *** فيرتد عند الطرف وهو حسير

وما ذاك إلا أن فيك لناظري *** بدا غصن غض النبات نضير

إذا ما تجلى سافرا فجماله *** إلى القلب من جيش الغرام سفير

إذا ما اجتمعنا والتفى الشمل فالتقى *** رقيب علينا والعفاف غيور

يؤكد عقد الود بيني وبينه *** اعتقاد عليه للهداية نور

كلانا محب للإمام ابن حنبل *** لأسيافنا في شانئية هبير

إلى أن قال‏:‏

نقر بأن الله جل جلاله *** سميع لأقوال العباد بصير

ويطوي السموات العلى بيمينه *** وذلك في وصف القوى يسير

وخاطب موسى بالكلام مكلما *** فخر صريعا إذ تقطع طور

وخط له التوراة فيها مواعظ *** فلاحت على الألواح منه دسور

وأن قلوب الخلق بين أصابع *** الإله فمنها ثابت ونفور

ونثبت في الأخرى لرؤية ربنا *** حديثا رواه في الصحيح جرير

وأي نعيم في الجنان لأهلها *** وأنى لهم لو لم يروه سرور

إلى أن قال‏:‏

ونؤمن أن العرش من فوق سبعة *** تطوف به أملاكه وتدور

قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه *** تقدس كرسي له وسرير

هو الله ربي في السماء محجب *** وليس كمخلوق حوته قصور

إليه تعالى طيب القول صاعد *** وينزل منه بالقضاء أمور

لقد صح إسلام الجويرية التي *** بأصبعها نحو السماء تشير

وقال رحمه الله في قصيدته المنامية التي يقول فيها‏:‏

رأيت رسول الله في النوم مرة *** فقبلت فاه العذب تقبيل مشتاق

ولو أنني أوتيت رشدي نائما *** لقبلت ممشاه الكريم بآماقي

فبشرني منه بأزكى شهادة *** بها جبر كسري يوم فقري وإملاقي

بموت سعيد في كتاب وسنة *** فلانت لبشراه شراسة أخلاقي

وها أنا ذا والحمد لله وحده *** مقر لبشراه بأثبت مصداق

بأني على حسن اعتقاد ابن حنبل *** مقيم وإن قام العدى لي على ساق

أقر بأن الله من فوق عرشه *** يقدر آجالا ويقضي بأرزاق

سميع بصير ليس شيء كمثله *** قديم الصفات الواحد الأحد الباقي

أمر أحاديث الصفات كما أتت *** أتابع فيها كل أزهر سباق

ولست إلى التشبيه يوما بجانح *** ولا قائل تأويل أشدق نهاق

وقال رحمه الله في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي رضي الله عنه أولها‏:‏

أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل *** بأني حرب للعدى غير أنكل

تشن عليهم غيرتي وحميتي *** لدين الهدى غارات أشوس مقبل

لوقع قريضي في صميم قلوبهم *** أشد عليهم من سنان ومنصل

أفرق منه حين أنظر نحوهم *** مقاتل تصمي منهم كل مقتل

هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي *** مهالك من تحريفهم والتأول

لقد بريء الحبر ابن إدريس منهم *** براءة موسى من يهود محول

وتعقد عند الشافعي يمين من *** غدا حالفا بالمصحف المتقبل

وهذا دليل منه إذ كان لا يرى *** انعقادا لمخلوق لخلق مؤتل

ومذهبه في الاستواء كمالك *** وكالسلف الأبرار أهل التفضل

وقل مستو بالذات من فوق عرشه *** ولا تقل استولى فمن قال يبطل

فذاك الذي ضد يقابل قسوة *** لذي خطل راو لغث وأخطل

وقد بان منه خلقه وهو بائن *** من الخلق محض للخفي وللجلي

وأقرب من حبل الوريد مفسرا *** وما كان في معناه بالعلم فاعقل

علا في السماء الله فوق عباده *** دليلك في القرآن غير مقلل

وإثبات إيمان الجويرية اتخذ *** دليلا عليه مسند غير مرسل

وقال رحمه الله في قصيدته اللامية يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث، أولها‏:‏

أطع الهدى لا ما يقول العذل *** فالحب ذومر يجور ويعدل

واتبع لسلمى ما استطعت مسالما *** فالحسن ينصرها وصبرك يخذل

بيضاء دون مرامها لمحبها *** بيض الصوارم والرماح الذبل

تخفى فيعرفها الوشاة بعرفها *** وتضيء والظلماء ستر مسبل

تضحي الدماء بحورها هدرا وهل *** يخفى قصاص القتل طرف أكحل

كيف البقاء لعاشق أودى به *** سهم اللحاظ وقد أصيب المقتل

نبذ الكتاب وراء ظهر، واقتدى *** شيخ الضلالة للصفات يعطل

الحق أثبتها تعالى جده *** والتيس ينكرها فجن يقبل

وعقيدة الملعون أن المصحف *** المكتوب منبوذ تطؤه الأرجل

ما قالت الكفار مثل مقاله *** وكذا اليهود والنصارى الضلل

آل الجحود به إلى واد لظى *** للغاية السفلى فبئس الموئل

وزعمت أن الحنبلي مجسم *** حاشا لمثل الحنبلي يمثل

بل يورد الأخبار إذ كانت تصححها *** الرواة عن الثقات وتنقل

إن المهيمن ليس تمضي ليلة *** إلا وفي الأسحار فيها ينزل

قد قالها خير الورى في سادة *** لم ينكروا هذا ولم يتأولوا

وتقبلوها مع غزارة علمهم *** أفأنت أم تلك العصابة أعقل

وقال رحمه الله في داليته التي أولها‏:‏

واها لفرط حرارة لا تبرد *** ولواعج بين الحشا تتوقد

في كل يوم سنة مدروسة *** بين الأنام وبدعة تتجدد

صدق النبي ولم يزل متسربلا *** بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد

إذ قال تفترق الضلال ثلاثة *** زيدت على السبعين قولا يسند

وقضى بأسباب النجاة لفرقة *** تسعى بسنتة إليه وتحفد

فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة *** فاقبل مقالة ناصح يتقلد

إياك والبدع المضلة إنها *** تهدي إلى نار الجحيم وتورد

وعليك بالسنن المنيرة فاقفها *** فهي المحجة والطريق الأقصد

فالأكثرون بمبدعات عقولهم *** نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا

منهم أناس في الضلال تجمعوا *** وبسب أصحاب النبي تفردوا

قد فارقوا جمع الهدى وجماعة *** الإسلام واجتنبوا التقى وتمردوا

بالله يا أنصار دين محمد *** نوحوا على الدين الحنيف وعددوا

لعبت بدينكم الروافض جهرة *** وتألفوا في دحضه وتحشدوا

نصبوا حبائلهم بكل مكيدة *** وتغلغلوا في المعضلات وشددوا

ورموا خيار الخلق بالكذب الذي *** هم أهله لا من رموه وأفسدوا

نقضوا مراتب هن أشرف منصب *** في الفخر من أفق السماء وأمجد

الرتبة الصديق جف لسانهم *** يبغون وهي من التناول أبعد

أو ما هو السباق في عرف العلى *** ولقد زكى من قبل منه المحتد

ولقد أشار بذكره رب العلى *** فثناؤه في المكرمات مشيد

نطق الكتاب بمجده الأعلى ففي *** آي الحديد مناقب لا تنقد

لا يستوي منكم وفيها مقنع *** والليل يثبت فضله ويؤكد

وبراءة تثني بصحبته وهل *** يوهي رفيع علاه إلا ملحد

أو ما هو الأتقى الذي استولى على *** الإخلاص طارف ماله والمتلد

لما مضى لسبيله خير الورى *** وحوى شمائله صفيح ملحد

منع الأعاريب الزكاة لفقده *** وارتد منهم حائر متردد

وتوقدت نار الضلال وخالطت *** إبليس أطماع كوامن رصد

فرمى أبو بكر بصدق عزيمة وثبات إيمان ورأي يحمد

فتمزقت عصب الضلال وأشرقت *** شمس الهدى وتقوم المتأود

أم رتبة الفاروق في إظهاره *** للدين تلك فضيلة لا تجحد

وهو الموفق للصواب كأنما *** ملك يصوب قوله ويسدد

بوفاقه آي الكتاب تنزلت *** وبفضله نطق المشفع أحمد

لو كان من بعدي نبيا كنته *** خبرا صحيحا في الرواية يسند

وبعد له الأمثال تضرب في الورى *** وفتوحه في كل قطر توجد

وتمام فضلها جوار المصطفى *** في تربة فيها الملائك تحشد

وتعمقوا في سب عثمان الذي *** ألفاه كفوا لابنتيه محمد

ولبيعة الرضوان مد شماله *** عوض اليمين وهي منه أوكد

وحباه في بدر بسهم مجاهد *** إذ فاته بالعذر ذاك المشهد

من هذه من بعض غر صفاته *** ما ضره ما قال فيه الحسد

ثم ادعوا حب الإمام المرتضى *** هيهات مطلبه عليهم يبعد

أنى وقد جحدوا الذين بفضلهم *** أثني أبو الحسن الإمام السيد

ما في علاه مقالة لمخالف *** فمسائل الإجماع فيه تعقد

ولنحن أولى بالإمام وحبه *** عقد ندين به الإله مؤكد

وولاؤه لا يستقيم ببغضهم *** واضرب لهم مثلا يغيظ ويكمد

مثل الذي جحد ابن مريم وادعى *** حب الكليم وتلك دعوى تفسد

وبقذف عائشة الطهور تجشموا *** أمرا تظل له الفرائض ترعد

تنزيهها في سبع عشرة آية *** والرافضي بضد ذلك يشهد

لو أن أمر المسلمين إليهم *** لم يبق في هذي البسيطة مسجد

ولو استطاعوا لا سعت بمرامهم *** قدم ولا امتدت بكفهم يد

لم يبق للإسلام ما بين الورى *** علم يسود ولا لواء يعقد

علقوا بحبل الكفر واعتصموا به *** والعالقون بحبله لم يسعدوا

وأشدهم كفرا جهول يدعي *** علم الأصول وفاسق متزهد

فهما وإن وهنا أشد مضرة *** في الدين من فأر السفين وأفسد

وإذا سألت فقيههم عن مذهب *** قال‏:‏ اعتزال في الشريعة يلحد

كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى *** منها ففر إلى جحيم توقد

إن المقال بالاعتزال لخطة *** عمياء حل بها الغواة المرد

هجموا على سبل الهدى بعقولهم *** ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا

صم إذا ذكر الحديث لديهم *** نفروا كأن لم يسمعوه وعردوا

واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت *** أسد العرين فهن منهم شردوا

إلى أن قال‏:‏

والجاحد الجهمي أسوا منهما *** حالا وأخبث في القياس وأفسد

أمسى لرب العرش قال منزها *** من أن يكون عليه رب يعبد

ونفي القرآن برأيه والمصحف *** الأعلى المطهر عنده يتوسد

وإذا ذكرت له على العرش استوى *** قال هو استولى يحيد ويخلد

فإلى من الأيدي تمد تضرعا *** وبأي شيء في الدجى يتهجد

ومن الذي هو للقضاء منزل *** وإليه أعمال البرية تصعد

وبما ينزل جبرئيل مصدقا *** ولأي معجزة الخصوم تبلد

ومن الذي استولى عليه بقهره *** إن كان فوق العرش ضد أيد

جلت صفات الحق عن تأويلهم *** وتقدست عما يقول الملحد

لما بغوا تنزيهه بقياسهم *** ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد

ويقول لا سمع ولا بصر ولا وجه لربك ذي الجلال ولا يد

من كان هذا وصفه لإلهه *** فأراه للأصنام سرا يسجد

الحق أثبتها بنص كتابه *** ورسوله وغدا المنافق يجحد

فمن الذي أولى بأخذ كلامه *** جهم أم الرحمن قولوا وأرشدوا

والصحب لم يتأولوا لسماعها *** فهم إلى التأويل أم هو أرشد

هو مشرك ويظن جهلا أنه *** في نفي أوصاف الإله موحد

يدعو من اتبع الحديث مشبها *** هيهات ليس مشبها من يسند

لكنه يروي الحديث كما أتى *** من غير تأويل ولا يتردد

وإذا العقائد بالضلال تخالفت *** فعقيدة المهدي أحمد أحمد

هي حجة الله المنيرة فاعتصم *** بحبالها لا يلهينك مفسد

إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى *** ومخالفوه لزيفهم لم يهتدوا

ما زال أحمد يقتفي أثر الهدى *** ويروم أسباب النجاة ويجهد

حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة *** ما فوقها لأخى ارتقاء مصعد

نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل *** في فتنة نيرانها تتوقد

ما صده ضرب السياط ولا ثنى *** عزماته ماضي الغرار مهند

فهواه حبا ليس فيه تعصب *** لكن محبة مخلص يتودد

وهذا باب واسع جدا لا يتسع لذكره مجلد كبير، ويكفي أن شعراء الجاهلية مقرة به على فطرتهم الأولى كما قال عنترة في قصيدته‏:‏

يا عبل أين من المنية مهربي *** إذ كان ربي في السماء قضاها

ذكر أقوال الفلاسفة المتقدمين والحكماء الأولين

فإنهم كانوا مثبتين لمسألة العلو والفوقية مخالفين لأرسطو وشيعته، وقد نقل ذلك أعلم الناس بكلامهم وأشهدهم اعتناء بمقالاتهم ابن رشد الحفيد قال في كتابه مناهج الأدلة‏:‏ القول في الجهة‏:‏ وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثباتها لله تعالى مثل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله متأولا، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى‏.‏ قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية‏.‏ قال‏:‏ ونحن نقول‏:‏ إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطح نفس الجسم المحيط به وهي ستة، وبهذا نقول أن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا وإما سطوح جسم آخر محيط بالجسم من الجهات الست، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم أصلا وأما سطوح الجسم المحيط به فهي له مكان مثل سطوح الهوى المحيط بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهوى هي أيضا مكان الهوى، وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد برهن أنه ليس خارجة جسم لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج فلك الجسم أيضا جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية، فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود، هو جسم لا موجود ليس بجسم وليس لهم أن يقولوا أن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيء أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن رفعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن يكون أعراض موجودة في غير جسم وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولابد ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك ‏"‏الموضع‏"‏ هو مسكن الروحانيين ويريدون الله والملائكة، وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا ‏(‏يجوز‏)‏ أن يحويه زمان، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن‏.‏ وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله وذلك أنه إذا لم يكن هاهنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود ‏(‏بنفسه‏)‏ إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه تعالى موجود في الوجود إذ لا يمكن أن يقال له‏:‏ موجود في العدم، فإن كان هاهنا موجود فهو أشرف الموجودات، فواجب إلى أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السموات، ولشرف هذا الجزء قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم، قال‏:‏ فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القواعد إبطال للشرائع ثم ساق تقرير ذلك إلى آخره فهذا كلام فيلسوف الإسلام الذي هو أخبر بمقالات الفلاسفة والحكماء وأكثر إطلاعا عليها من ابن سينا ونقلا لمذاهب الحكماء وكان لا يرضى بنقل ابن سينا ويخالفه نقلا وبحثا‏.‏

ذكر قول الجن المؤمنين المثبتين

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا‏}‏، وقال في آية أخرى حكاية عنهم ‏{‏فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم‏}‏‏.‏ فأخبروا أنه يهدي إلى الرشد وإلى الحق وأعظم الرشد والحق الذي يهدي إليه معرفة الله سبحانه وإثبات صفاته وعلوه على خلقه ومباينته لهم إذ بذلك يتم الاعتراف به وإثباته ونفي ذلك نفي له ولصفاته وكذلك سمعه المؤمنون الصادقون منهم، كما قال أبو بكر الخطيب في تاريخه‏:‏ حدثني عبد الله بن علي بن محمد القرشي ‏(‏حدثني عبد الله بن إبراهيم بن أيوب‏)‏ حدثنا أبو محمد بن ماسي قال‏:‏ حدثني أبو مسلم الكجي قال‏:‏ خرجت يوما فإذا الحمام قد فتح سحرا فقلت للحمامي أدخل أحد الحمام‏؟‏ قال‏:‏ لا فدخلت ‏"‏الحمام‏"‏ فساعة فتحت الباب قال لي قائل‏:‏ يا أبا مسلم أسلم تسلم ثم أنشأ يقول‏:‏

لك الحمد إما على نعمة *** وإما على نقمة تدفع

تشاء وتفعل ما شئته *** وتسمع من حيث لا يسمع

‏"‏قال‏"‏ فبادرت فخرجت وأنا جزع فقلت للحمامي‏:‏ أليس زعمت أنه ليس في الحمام أحد‏؟‏ فقال لي‏:‏ هل سمعت شيئا‏؟‏ قال فأخبرته بما كان فقال ‏"‏لي‏:‏ إن‏"‏ ذلك جني يتراءى في كل حين وينشدنا الشعر فقلت‏:‏ هل عندك من شعره شيء‏؟‏ قال‏:‏ نعم وأنشدني‏:‏

أيها المذنب المفرط مهلا *** كم تمادي وتكسب الذنب جهلا

كم وكم تسخط الجليل بفعل *** سمج وهو يحسن الصنع فضلا

كيف تهدأ جفون من ليس يدري *** أرضي عنه من على العرش أم لا

وروينا في الغيلانيات عن عبد الله بن الحسين المصيصي قال‏:‏ دخلت طرسوس فقيل لي‏:‏ هاهنا امرأة رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيتها فإذا امرأة مستلقية على ظهرها فقلت‏:‏ أرأيت أحدا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت‏:‏ نعم، حدثني عبد الله ابن سمحج قال‏:‏ قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض قال‏:‏ كان في نور‏.‏

ذكر قول النمل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فتبسم ضاحكا من قولها‏}‏ فأخبر الله سبحانه عن النمل أنه ركب فيه مثل هذا الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في هذا الخطاب بين النداء والتعيين والتنبيه والتخصيص والأمر، وإضافة المساكن إلى أربابها والتجائهم إلى مساكنهم فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم، والتحذير والاعتذار بأوجز خطاب وأعذب لفظ‏.‏ ولذلك حمل سليمان عليه السلام التعجب من قولها على التبسم وأحرى بهذه النملة وأخواتها من النمل أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية‏.‏ وقد دل هذا على ما رواه الطبراني في معجمه قال‏:‏ حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن سليمان عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة أحد قوائمها تستسقي فقال لأصحابه‏:‏ ارجعوا لقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع قال‏:‏ حدثنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال‏:‏ خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي بالناس فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول‏:‏ اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك فإما أن تسقينا أو تهلكنا قال سليمان عليه السلام للناس ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ورواه الطحاوي والطبراني أيضا من حديث أبي الصديق الناجي قال‏:‏ «خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول‏:‏ اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك اللهم فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال‏:‏ ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، هذا لفظ رواية الطبراني، ولفظ الطحاوي فإذا هو بنملة قائمة على رجلها رافعة يديها تقول‏:‏ اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان لأصحابه‏:‏ ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم»، ورواه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج نبي من الأنبياء يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة يديها إلى السماء تستسقي فقال لأصحابه‏:‏ ارجعوا فقد سقيتم»‏.‏

وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد إنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت‏.‏ وذكر شيخ الإسلام الهروي بإسناده عن عبد الله بن وهب قال‏:‏ أكرموا البقر فإنها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عبد العجل حياء من الله عز وجل، وقد روي مرفوعا عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن أبي هند عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكرموا البقر فإنها سيدة البهائم، ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من الله عز وجل منذ عبد العجل، قلت‏:‏ ولا يثبت رفعه فإن أبا هند مجهول‏.‏ والمقصود أن هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها الحيوان وغيره، حتى أبلد الحيوان الذي نضرب ببلادته المثل وهو البقر‏.‏

فصل في جواب من يقول كيف يحتج علينا بأقوال الشعراء والجن وحمر الوحش

ولعل قائلا يقول‏:‏ كيف يحتج علينا في هذه المسألة بأقوال من حكيت قوله ممن ليس قوله حجة فأجلبت بها ثم لم تقنع بذلك حتى ذكرت أقوال الشعراء ثم لم يكفك ذلك حتى جئت ‏(‏بأقوال‏)‏ الجن ثم لم تقتصر حتى استشهدت بالنمل وحمر الوحش فأين الحجة في ذلك كله‏؟‏ وجواب هذا القائل أن نقول‏:‏ قد علم أن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر أنبيائه عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم ليس حجة عندكم في هذه المسألة إذ غاية أقوالهم عندهم أن تكون ظواهر سمعية وأدلة لفظية معزولة عن اليقين، متواترها يدفع بالتأويل وآحادها يقابل بالتكذيب فنحن لم نحتج عليكم بما حكيناه وإنما كتبناه لأمور منها أن يعلم بعض ما في الوجود ويعلم الحال من هو بها جاهل، ومنها أن نعلم أن أهل الإثبات أولى بالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الإسلام وطبقات أهل العلم والذين من الجهمية والمعطلة، ومنها أن نعرف الجهمي النافي لمن خالف من طوائف المسلمين وعلى من شهد بالتشبيه والتمثيل وعلى من استحل بالتكفير وعرض من مزق من الأئمة‏.‏ ومنها أن نعرف عساكر الإسلام والسنة وأمراءها وعساكر البدع والتجهم ليتحيز المقاتل إلى إحدى الفئتين على بصيرة من أمره ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة وإن الله لسميع عليم، ومنها أن نعرف الجهمي النافي لمن قد بارز بالعداوة وبغي الغوائل وأسعر نار الحرب، ونصب القتال، أفيظن أفراج المعتزلة ومخانيث الجهمية ومقلدو اليونان أن يضعوا لواء رفعه الله تعالى وينكسوا علما نصبه الله تعالى ويهدموا بناء شاده الله ورفعه ويقلقلوا جبالا راسيات شادها وأرساها ويطمسوا كواكب نيرات أنارها وأعلاها هيهات هيهات بئسما سولت لهم أنفسهم لو كانوا يعلمون ‏{‏ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعملون‏}‏‏.‏

‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون‏}‏، ‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏ ولو شئنا لأتينا على هذه المسألة بألف دليل ولكن هذه نبذة يسيرة وجزء قليل من كثير لا يقال له قليل‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله فهو المهتدي‏}‏ ‏{‏ومن يضلل فلن تجد له سبيلا‏}‏‏.‏